"منذ تلك اللحظة، بالضبط مثل ذبابة مانيان، بدأ خوف مجهول يغلف عقلي. شك غير منطقي بدأ يتملكني، أن هذه الرحلة لم تكن تقودني إلى حياة الخليج التي كنت أحلم بها وأشتهيها. ذاك الخليج الذي عرفت عنه الكثير من العديد من الأشخاص، لا يشبه ما أراه. يلفحني الخطر، ولا شيء واضح أمامي ." (أيام الماعز، بنيامين، دار نشر بنغوين 2012)
لقد خلق زمن النفط مستويات غير مسبوقة من التقييد والقسوة البشرية. وفي الوقت نفسه، فالناس اليوم يسافرون أسرع وفي مجموعات أكبر من أي وقت مضى: والهجرة إلى الخليج بعد الانفجار النفطي في السبعينات خير مثال على ذلك. يوجد هناك ما يقرب من خمسة عشر مليوناً من العمال المهاجرين في الخليج، قدم أغلبهم من دول آسيوية، وأفريقية، وعربية. وقد ارتفع عدد العمال الآسيويين المهاجرين بشكل ملحوظ في التسعينات، ليعوضوا النقص الحاصل بسبب تهجير العمال العرب الذي سببته حرب الخليج عام 1991. هناك ما يقرب من مليونين ونصف من العمال المهاجرين من كيرالا لوحدها، وهم يرسلون إلى بلدهم سنوياً ما يقرب من خمسة عشر بالمئة من التحويلات الخارجية للهند. يقضي العمال المهاجرون سنوات من عمرهم بعيداً عن عوائلهم، يعملون بأجور زهيدة جداً، ويعيشون في ظروف سيئة، فيما يحتجز أرباب العمل جوازاتهم في بلد لا يوجد فيه بشكل فعلي أية قوانين عمل على أرض الواقع. يعبر الأدب عن تجارب هؤلاء المهاجرين بصورة مثيرة في رواية بنيامين، أيام الماعز، باللغة الانجليزية. هذه الرواية المبنية على قصة حقيقية، أصبحت ضمن قائمة أفضل المبيعات في طبعتها الأصلية المالايالامية ( أدوجيفاتيم)، وفازت بجائزة أكاديمية ساهيتا- كيرالا. بنيامين، وهذا هو الاسم الأدبي لبني دانيل، هو مسيحي من كيرالا عاش في البحرين منذ عام 1992.
1. السفر والأدب
هناك نقص كبير في الأدب الذي يكشف التقاليد التي ولدت في مجتمع النفط. ورغم أن الهجرة إلى الخليج تعد مثالاً لحياة المهجر لدول جنوب آسيا في وقتنا الحاضر، فإنه لا توجد رواية أخرى ، متوفرة باللغة الانجليزية، أبرزت شخصية العامل المهاجر كشخصية رئيسية فيها. بنيامين يقوم بهذا عن طريق وصف ثري لما يحيط بشخصية البطل بأسلوب حوار داخلي مؤثر. الراوي في الرواية اسمه نجيب، عامل منجم بسيط من كيرالا يسافر للرياض عن طريق بومباي في التسعينات حالماً بالحصول على ثروة، ليستعبد بعدها لمدة ثلاث سنوات في مزرعة ماعز تحت رحمة رب عمل قاس (أرباب). إنها رواية ذات تقاطعات متعددة: من جنوب الهند للخليج، ومن الرياض إلى المناطق القروية في السعودية، ومن الأحلام إلى المرارة المادية، والتحرر من الوهم على واقع الفقر. ولكن يكمن في قلب أيام الماعز الرحلة التي يقوم بها نجيب من العبودية للحرية، وبضمنها رحلة شاقة ومحفوفة بالمخاطر في بطن الصحراء. تتحدث الرواية عن الأخطار التي يواجهها نجيب في صراعه للحصول على الحرية.
ما لفت انتباهي كحقيقة جذابة في أيام الماعز هو الاقتصاد في استعمال النثر، حيث يستعمل بنيامين أسلوباً مباشراً وموجزاً:
"امتدت أغصان شجرة ليمون برية إلى أبعد قليلا من كشك الحراسة. كنا نقرفص في ظلها متأملين أن يطل حارس علينا أثناء نوبته ويرانا. بقينا هكذا لفترة طويلة. وفي تلك الأثناء، دخل إثنان أو ثلاثة من العرب بخطى رشيقة إلى مركز الشرطة، فيما تسكع ثلاثة أشخاص على الأقل خارجين منه. بدونا وكأننا غير مرئيين لهم."
إن المحرك الرئيس في رواية نجيب هو ليس الرحلات فقط، ولكن أيضاً نوبات الانتظار الطويلة. لهذا تعد قراءة أيام الماعز مثيرة: فالقارئ يتابع نجيب وهو يدخل إلى عالم يصبح فيه معتمداً بالكامل على "مضيفه" حين يُنقل من مكان احتجاز لآخر. إن الفقرة التي أوردناها أعلاه تتحدث عن رحلة نجيب مع سيده الجديد من المطار: يُنقل نجيب على شاحنة متجهة إلى الصحراء، وهو لا يعلم إلى أين يأخذونه. وعن طريق إبقاء القارئ مترقباً للأحداث، يرسم بنيامين خط هجرة غير مرئي لقراء الأدب الهندي. يعود الفضل للمترجم، جوزيف كويبالي، في الاحتفاظ بخاصية الإثارة في النص الأصلي دون تغيير.
أشعر بالسعادة كلما وجدت ترجمة إنجليزية لأحد الأعمال الأدبية من جنوب آسيا، لأنه، وبالرغم من الثراء الأدبي في تلك المنطقة، فإن الأدبي الهندي المكتوب بالانجليزية هو أكثر أنواع الأدب قبولا وتقديراً فيها. انتشر الأدب الهندي المكتوب بالانجليزية في التسعينيات. أحد الأنواع الفرعية لهذا الأدب ركز على الهجرة من جنوب آسيا إلى أماكن تسود فيها اللغة الإنجليزية. ركز الكثير من هذا الأدب على الكيفية التي أعاد المهاجرون الهنود تشكيل أنفسهم حين غادروا إلى المملكة المتحدة والولايات المتحدة حيث شعروا بالتمزق بين عالمهم القديم والعالم الجديد الذي وصلوا إليه. بما أن روائيين مثل جمبا لاهيري، وأنيتا ديزاي، وأميت شودري، وبانجيري دياكاروني قد كتبوا باللغة الانجليزية، فقد حظوا بجمهور دولي في أوروبا والولايات المتحدة، ونُظر إليهم على أنهم بالأساس كتاب هنود. ورغم هذا، فإن الرحلة الأساسية التي قام بها المهاجرون من جنوب آسيا في نفس العقد، وقعت ضمن الاحداثيات الجغرافية في الجنوب الدولي، أي بين الهند والخليج. هذه الفئة من المهاجرين ليست في الحقيقة في "الوطن" ولا تملك الحرية والترف لتكتب أدباً. وكما شرحت ديزي روكويل في "بلد الجسور المعلقة"، فهناك ترتيب هرمي للغات ضمن منطقة جنوب آسيا ذات اللغات المتعددة. فهنالك من درسوا في مدارس إنجليزية، وهم عادة من الطبقات الميسورة الحال. إن وضع لغة المالايالام كلغة إقليمية في الهند يحدد من إمكانية الوصول إلى قراء في العالم المتحدث بالانجليزية، ولهذا السبب تم الترحيب برواية بنيامين أيام الماعز.
كان على الروايات الهندية المكتوبة باللغة الانجليزية أن تبذل مجهوداً لتعرض "ما يصعب ترجمته" من عبارات باللغة الهندية-أردية، والبنجابية، و..إلخ إلى الانجليزية. بما أنه من المفترض أن جمهور القراء من الآدوجيفيتام لا يتحدثون الإنجليزية، فإنه لا توجد محاولة لعرض كيف يبدو متحدثو المالايام للقراء الإنجليزيين. ومما يزيد الأمر تعقيداً حقيقة أن اللكنة الإنجليزية لمن يتحدثون المالايام، ولهجة الآخرين ممن يتحدثون لغات جنوب الهند هي هدف لسخرية الطبقات الأرستقراطية الهندية في الشمال. هذه السخرية مرتبطة بتاريخ اللغة السياسي، حيث قاوم الناس في الجنوب هيمنة اللغة الهندية كلغة وطنية حيث تم إعادة ترتيب الولايات الهندية وفقاً للغة بعد الاستقلال بفترة وجيزة.
الأهم من ذلك هو أن أيام الماعز تفتح أفقاً جديداً لأنها رواية عن المهجر الآسيوي الجنوبي، والذي هو ليس الغرب ولا الطبقة الارستقراطية. وبالتالي، فإنها غير مهتمة بشكل أساسي بمواضيع الهوية والانتماء، مثل تلك الروايات التي تركز على رحلة المهاجرين الهنود للغرب ( الولايات المتحدة وأوروبا). يمكن للمهاجر العامل أن يعيش لسنوات بعيداً عن وطنه، وربما يتعلم العربية أيضاً، لكن الاندماج عن طريق اكتساب الجنسية أمر غير ممكن في دول الخليج كما هو الحال في الولايات المتحدة وبريطانيا على سبيل المثال. وبالتالي، فإن تجربة " الانتماء دونما إنتماء" هي أمر محل نقاش في أماكن مثل دبي، حيث يشكل الأجانب أغلبية السكان، ويعملون بشكل أو آخر كعلامات تجارية، أو كعالم من المستهلكين في غياب الديمقراطية، وكعمال بدون أجور عادلة.
الشيء المنعش أيضا في أيام الماعز هو نقاشها الواقعي والمرن في الوقت ذاته لموضوع الإسلام، فيما يخص كيفية تناول بنيامين لتدين نجيب. إن النظرة لهذا الموضوع ليست نظرة مراقب يدخل إلى عالم جديد، ولذلك فلا نجد وصفاً لكيف يتجمع الناس للصلاة، وكيف يصلون، وما الذي يقولونه أثناء صلاتهم. إن ديانة نجيب، وصلاته، واعتقاداته ليسوا غريبين، ولا تتبع أي فكر سياسي. إن إسلامه حدث عرضي ومقدر بالضبط كما هو حال رب العمل ( الأرباب). يتحدى نجيب المعاني المختلفة للكلمة العربية أرباب، والتي تعني رب العمل، والمخلص، ولكنها أيضا جمع كلمة (رب) وتعني الإله. يلجأ نجيب في مرات عديدة إلى مخلصه الأكبر في نفس الصحراء التي سمعت اسمه أول مرة:
"لم أكن أعلم إن كان الله قد سمعني أو لا، لكن إيماني بالله كان يرعاني ويزرع في نفسي ثقة جديدة. أنتم ياغير المؤمنين، ممن كنتم محظوظين للعيش بسعادة في الربوع الخضراء التي أفاء الله بها عليكم، قد تظنون أن الصلاة شعائر سخيفة. بالنسبة لي، كانت الصلاة هي المفتاح. لقد أبقاني إيماني قوي الروح برغم ما كنت أعانيه من ضعف الجسد. ولولا ذلك لتلاشيت واحترقت مثل العشب في تلك الرياح العاصفة."(153)
ولهذا تعد رواية أيام الماعز سرداً أدبياً "من القاع" عن طبقات، وأشخاص مقهورين ومستغلين. لذلك، يشعر القارئ بالأحلام التي تستند إلى إمكانات محدودة في الحياة، يتبعها إفاقة من تلك الأحلام. تتكون رحلة نجيب إلى السعودية من دوائر رهيبة يدور فيها نجيب ويخسر: الحصول على فيزا عن طريق وكيل في بومباي، والتكلفة العالية للحصول على كفيل حيث يضطر أن يبيع كل شيء فقط ليقوم برحلته إلى الرياض. يشرح حماسه للرحلة، وأحلامه بالحصول على " ساعة ذهبية، تلفزيون، سيارة"، تاركاً زوجته مع وعود بهدايا كثيرة عند عودته، ومن ثم تأتي خيانة تلك الأحلام: "أشعر بالقرف وكأني أشم رائحة عفنة من مشهد في فلم من الدرجة الرابعة" (39).
2. العمل والعنف
إن المشهد الافتتاحي في القصة والذي يدور في السجن يعد بداية موفقة، حيث يسجل نجيب نفسه بشكل طوعي، فلا يوجد مكان يمكن للعامل أن يذهب إليه إذا ترك كفيله وأراد العودة لوطنه. فالأجنبي ممنوع حسب نظام "الكفالة" من العمل في أي من دول مجلس التعاون الخليجي بدون كفيل محلي. متى ما تم قطع علاقة العمل هذه، يعتبر العامل الأجنبي حينها مقيماً غير شرعي ويجب عليه أن يغادر البلاد فوراً. وبما أن نظام الكفالة يقيد إذن العمل والإقامة الممنوح للعاملين بموافقة الكفيل، فإنه يمنعهم من البحث عن عمل بديل. أما أولئك الذين يشتكون من ظروف العمل القاسية، والمعاملة السيئة فإنهم يخاطرون بفقدان عملهم، واعتبارهم مجرمين ومن ثم ترحيلهم. يصف نجيب سجن سوميسي بأنه مكان يستلقي فيه "السجناء على أي مساحة من الأرض يستطيعون الحصول عليها، في منظر يشبه تكوم الجثث بعد كارثة طبيعية" (13)، وفي مكان آخر يصف هذا المكان بأنه مثل " محطة قطار حيث يأتي الناس ويرحلون"(25).
يترك المقيمون غير الشرعيين هنا حتى تنادى أسماؤهم وأرقامهم، تلك الأرقام التي توشم على سواعدهم: " لقد ذهبت إلى مدرسة دينية عندما كنت صغيراً، وهذا كاف لأميز الرقم 13858." كان "الاستعراض اليومي" الذي يقام كل أسبوع هو أكثر ما يرعب نجيب وزملاءه في السجن:
"إنه اليوم الذي يتعرف فيه العرب على العمال الفارين. نقف كلنا في خط مستقيم..يمشي العرب أمامنا وهم ينظرون في وجوهنا بتمعن، بالضبط كما يفعل شاهد العيان الذي يريد التعرف على متهم..ويكون رد الفعل الأولي للعربي الذي يرى عاملاً من عماله أن ينزل بصفعة مدوية على وجهه تكاد تخرق طبلة أذنه، بل إن البعض يخلع حزامه ويجلد السجين حتى يهدأ غضبه." (21)
قد يترجم العنف الذي يلقاه العاملون المهاجرون في السعودية بشكل خاطئ من قبل بعض القراء على أنه عودة للأزمنة القديمة، لعالم القرن السابع، مجسدة المفهوم الخاطئ أن هناك ميلاً متجذراً نحو العنف في "الثقافة العربية." لكن العالم الذي يحتجز فيه نجيب عصري بالكامل، تم تشكيله عن طريق التفاعل بين الأوروبيين، والأمريكان، والعرب. فمؤسسات كالسجون التي بنيت لإيواء العمال الفارين، والأنظمة التي تم إرساؤها للجوازات والفيز، تعود أصولها إلى مشروع بناء الدولة الحديث: في حالة السعودية، تم تأسيس هذا المشروع بالكامل على قاعدة اقتصاد يعتمد على النفط، وعلى نخبة احتكرته.
لا نعرف إلا القليل عن تاريخ العبودية والعمالة المستأجرة في القرن العشرين قبل الانفجار النفطي في السبعينات. ولكن التدفق الكبير لملايين من العمال الهنود على ممالك النفط في الوقت الحديث يعيد إلى الذاكرة نفس التدفق للعمالة عبر المحيط الهندي قبل، وفي بداية ظهور النفط. لقد كانت العمالة المستأجرة أمراً حيوياً لنجاح العمل في الامبراطورية البريطانية، وتم نقل أكثر من مليون منهم إلى مستعمرات حول العالم بين عامي 1830 و 1920، ليحلوا محل العبيد الذين تحرروا في مزارع الهند الغربية.
يمكن أن نرى مثلا حيا للتوظيف الاستعماري للعمالة الهندية في المجتمعات الهندية في كل من الهند الغربية، وجنوب أفريقيا، وموريشيوس، وفيجي: لقد شكل هذا التوظيف الدولي الممنهج للعمال الهنود، والذي أدير من قبل حكومات إمبراطورية، وهندية، وحكومات استعمارية، سابقة غير معروفة من قبل. كما قام الجيش البريطاني باستعمال الهنود كعمالة عسكرية وكجنود في حملته على وادي الرافدين (1914) إبان الحرب العالمية الأولى، والتي أصبح النفط قرب نهايتها حافزاً أساسياً لتأسيس دولة عربية (العراق) في المناطق المقهورة. بدأت شركات النفط الأمريكية بالدخول إلى منطقة الخليج في الثلاثينات عقب المنافسة بين المصالح العثمانية والبريطانية، والتي كانت حجر الزاوية في إعادة تشكيل القبائل العربية المتنازعة. وقد فضل مديرو شركات النفط الأمريكية التعامل مع العائلة السعودية المستبدة بشكل خاص كما فعل البريطانيون في السابق.
وبينما تطورت السعودية سريعاً إلى أن أصبحت دولة وزبون عمل عن طريق التوسع في علاقة الأمن مقابل النفط مع الولايات المتحدة، كان هناك نظام عالمي هرمي للنفط يتم إرساؤه . في الأقاليم السعودية الشرقية الغنية بالنفط، تم في الأربعينات تطبيق قوانين جيم كرو، والتي استوردها مسؤولو شركة النفط الأمريكية، والتي فصلت بشكل غير متساو بين العرب والبيض، ولكن هذه الظاهرة اشتملت أيضاً على استقدام عمالة هندية للمساعدة في الأعمال المحلية، وبالتالي تم فصل العمالة بناء على العرق، وهو استراتيجية إمبراطورية قديمة.
في الحقيق، فإن مصطلح "نظام هرمي" تم تقديمه من قبل مسؤولي شركة النفط، وهو شيء التقطه الأمريكان من البريطانيين، الذين كانوا في هذه المنطقة منذ زمن طويل. في هذا النظام النفطي الهرمي الجديد، يتم تحديد الطبقة بناء على العرق والجنسية، مع تفضيل لبعض ( المغتربين الأنجلو-أمريكيين، والنخبة السعودية) على حساب الآخرين (الفقراء السعوديين، والبدو، والعمال المهاجرين). إن المرء يتساءل، إلى أي حد يمكن أن ننسب التصاعد في دولة الرفاهية السعودية، والتحول إلى العمالة الأجنبية إلى رد فعل على قمع العمال السعوديين واتحاداتهم. في عام 1949، عاد بعض العمال الباكستانيين إلى بلادهم من السعودية، وفضحوا سوء المعاملة التي تلقوها من الأمريكان في الصحافة المحلية:
"حال وصولهم إلى السعودية، وجد الباكستانيون الشباب المسؤولين الأمريكان ثملين بالعجرفة العنصرية..كانوا معبئين إلى أقصى حد بالرغبة في تعريض المسلمين الشباب إلى معاملة "إعدم الزنجي" اللا إنسانية. وحين استجمع هؤلاء "الزنوج" ما يكفي من الشجاعة للاحتجاج ضد هذه المعاملة المفروضة عليهم، تم تسليمهم للشرطة فوراً، ومن ثم تم ترحيلهم إلى الباكستان دون أدنى مراعاة لشروط التعاقد معهم.
لقد تم إلغاء العبودية في السعودية، والتي أغمض الأمريكان عيونهم عنها في السابق، عام 1962 بشكل رسمي من قبل الملك فيصل، ولكن العبودية المغلفة بالعقود استمرت. إن الغياب الرسمي "للعبودية"ن يستدعي في الواقع تساؤلاً عن ظاهرة مماثلة في عالمنا المعاصر، وهي ظاهرة العبودية عن طريق التعاقد، والتي تفترض قبول الطرفين وهو أمر لا معنى له في الواقع. إن ترتيبات الاحتجاز، والنقل، والعمالة القادمة من الهند إلى الخليج يمكن أن ينظر إليها على أنها جزء من التاريخ الامبراطوري العالمي للقرن العشرين. أما بالنسبة للملايين من العمال المهاجرين الذين سافروا إلى الخليج بحثاً عن فرص عمل، فقد وجدوا أنفسهم محاصرين بين الكفيل والدولة.
تستعمل كلمة أرباب في اللغة المحلية بمعنى كفيل/رب عمل، وهي تعني في الواقع "المخلص"، وحين يغادر نجيب، المتزوج حديثاً، موطنه ويصل لأول مرة إلى السعودية، ينتظر في المطار بفارغ الصبر الرجل الذي سيتولى مسؤوليته. وبخلاف العرب الأثرياء من سكان المدن الذين يسلمون على المهاجرين، فإن أرباب نجيب شخص فقير. ورغم استعداده للقيام بأي عمل، يتذكر نجيب باشمئزاز ورعب مشاعره حين عرف مصدر رائحة أربابه "التي تشبه خليطاً من مسحوق العظام والروث"، إنها قادمة من مزرعة الماعز حيث سيجبر على أن يعيش ويعمل، ممنوعاً من أن يغسل نفسه أو يستحم. هذه الروائح المقرفة، المنبعثة من نتانة الماعز والملابس العفنة التي أعطيت له، تشكل الخيط الذي يربط الرواية بكاملها:
"في البداية، كانت الرائحة النتنة تنبعث من كل شيء في المزرعة. الرائحة المنبعثة من بول الماعز، النتن المنبعث من الفضلات، العفونة المنبعثة من العشب والقش المبلل ببول الماعز..حتى حليب الماعز كانت له رائحة نتنة. كلما غمست قطعة خبز في حليب الماعز كانت رائحة العفونة تخترق أنفي. كم تقيأت في الأيام الأولى، ولكن شيئاً فشيئاً توقفت عن التقيوء، أو ربما بدأت أنسى. فيما بعد، ورغم أني حاولت مرات عديدة إلا أنني لم أستطع التعود، لقد أصبحت جزءاً مني، ولم أكن أصدق أن رائحة نتنة مثل هذه كانت موجودة أصلاً." (128)
3. الاحتجاز والعبودية:
إن تجربة الاحتجاز بالاكراه لمدة طويلة أمر لا يمكن التفكير فيه عند أغلب المهنيين المتنعمين. لذلك، فإنه من الصعب تخيل ما شعرت به وأنا محتجز في الصحراء، وممنوع من الاستحمام، وممنوع من أن أغسل نفسي بعد التغوط، أو أن أشرب الماء أكثر من ثلاث مرات في اليوم. من الصعب تخيل شعوري الدائم بالخوف من محتجزي الذي يمكن له أن يجلدني، أو يزيد من حجزي، أو يقتلني إذا شاء. ما هو شعورك حين تكون مختطفاً، ومسجوناً، بل ومستعبداً في واحدة من أقوى ممالك النفط على وجه الأرض؟
يقف الزمن بالنسبة لنجيب. حين يعقد حلفه الفاوستي، تظهر مشاعر متصاعدة ثم تخفت من الارتباك، والأرق المصحوب بعقدة الاضطهاد، والقلق، والضجر، والخوف مختلطة بمزيج من الضباب، والقذارة، والمرض. لقد ظهرت أصوات تعبر عن معاناة العمال المهاجرين للخليج في تقارير حقوق الانسان، وبرزت صورهم المصقولة على أغلفة العديد من الكتب والمجلات فاضحة أسلوب توزيع الثروة في ممالك النفط. ولكن السرد الأدبي من أرض الواقع لا يعري الحقيقة ببساطة، إنه يجعل التعرف على القسوة أكثر ألفة.
قراءة أيام الماعز تجعل القارئ قريباً من بطل الرواية. يخاطب نجيب القارئ بأسلوب الأمر الواقع، جاذباً إياه ليستمع إليه:
"لم تكن خواطري تدور حول بلدي الأم، بلدي ساينو،أوماه، أو ابني أو ابنتي الذي لم يولد بعد..كل هذه الخواطر أصبحت غريبة علي كما هي بالنسبة لميت انتقل للعالم الآخر. قريباً ربما تتساءل، وجوابي هو نعم" (94-95).
رواية بينامين توضح بجلاء تام وبقوة تجربة النفس التي عوملت وكأنها شبه آدمية. يقاوم نجيب الظروف اللاإنسانية لحجزه عن طريق تشكيل علاقات حميمة عبر كل المساحة التي عُزل فيها، وعن طريق العيش على أمل البقاء والعودة لوطنه، هذا الأمل الذي يقويه الإيمان، ويزدهر عن طريق سلسة من الصدف السعيدة. وهو معزول بعيداً عن لغته الأم تبقى لدى نجيب وسيلتان وحيدتان للتواصل: لغة العنف التي يستعملها الأرباب، ولغة الألفة الانسانية. يكتب الروائي توني موريسون وهو يتحدث عن سرد العبيد:
"في محاولاتي لجعل تجربة العبودية أكثر ألفة، كنت آمل أن يكون الاحساس بالأحداث، وهي تحت السيطرة وخارجها، مقنعاً على مدار العمل، بحيث تمزق الفوضى التي يخلقها عوز الأموات هدوء ونظام اليوم العادي، وتتحدى الذاكرة التي تصارع لتحيا الجهد الخارق المبذول للنسيان. وحتى نقدم العبودية كتجربة شخصية، يجب على اللغة أولا أن تفسح الطريق لتحقيق هذا الغرض."
وهذا بالضبط ما ينقله لنا بنيامين بأسلوب رائع. في عرض جذاب للكلمات العربية، يعرض نجيب على القارئ:
"إذا سأل خبير باللغة العربية من بينكم ما إذا كان اللفظ والمعنى للكلمات التي جدولتها هنا صحيح، يمكنني أن أقول إنني لا أعرف. لقد سمعتها بهذا الشكل، وتعلمتها بهذا الشكل..يمكنني أن أفهم ما عنته كلمة أرباب من خلال هذه الكلمات، ويمكن للأرباب أيضا أن يفهمني. ليس بالضرورة أن يكون الشخص خبيراً لغوياً ليتمكن من التفاهم." (97)
يعاني نجيب من الضرب، والحجز، والوجبات البائسة من الخبز والماء، والخوف ولكنه يتمكن من البقاء حياً. ورغم أنه رغبته في الهرب كانت حارقة، إلا أنه لم يكن يعرف أين هو ولا أين هو الاتجاه المؤدي لاقرب مدينة، وهي على الأقل تبعد مسافة ليلة كاملة بالسيارة عن المزرعة، كما أن الأرباب لديه مسدس وزوج من النواظير. يعرف القارئ جيدا منذ البداية أن نجيب يحيا ليستعيد عذابات عبوديته، ولكنه ينجذب إلى المتابعة. كيف يهرب نجيب في خاتمة المطاف من عالم لا يهتم به إلا كجسد يؤدي عملاً؟
كان الماعز هو الرفيق الوحيد لنجيب في فترة احتجازه. "لقد أصبحت واحداً منهم"، يقول نجيب بعد أن أُجبر على النوم في وسط الماعز. يمر الوقت اللاآدمي على نجيب في المزرعة، ويبدأ هو بتعريف كل واحد من قطيع الماعز بإسم معين محاولا بدوره أن يسبغ صفة الآدمية عليهم.
"ما عدا بوجاكاري رامني، فقد قمت بتسمية كل معزة أتمكن من تمييزها في المزرعة مما يجعل تقريعهم وتدليلهم أسهل. الأشخاص من محيطي المحلي مثل ارابو رابوثار، مارياميونما، إنديبوكار، نياندو راغافان، باريبو فيجايان، جاكي، أميني، كوسو راوفت، بنكي، آمو، رازية، وظاهرة، إضافة لشخصيات عامة مثل جاغاتي، موهانلال، وحتى إي إم إس نفسه كانوا جميعاً جزءاً من المزرعة. كل واحد منهم كان قريباً من نفسي بطريقة أو بأخرى. هل سبق لك أن نظرت متفحصاً في وجه معزة؟ إنه قريب جداً لوجه الإنسان. لقد أسميت الماعز ليس فقط بعد النظر إلى وجوههم، ولكن أيضاُ عن طريق ربط أسمائهم لبعض ملامح الشخصيات، وطريقة مشيهم، وأصواتهم، والأحداث التي تذكرني بهم، بالضبط كما يعود الشخص لمنزله حاملا لقباً ما..لذلك، كان هناك الكثير منهم الأسباب الشخصية والغريبة لاختيار كل اسم أعطيته للماعز. يمكن أن يضيع المنطق وراء الأسماء ولكنه كان منطقياً تماماً بالنسبة لي." (162-163)
أصبحت الماعز بالنسبة لنجيب الامتداد الحي لشوقه لأرض الوطن. ينبض عالم مالايلي كامل بالحياة حين يسرد نجيب القصص الملونة خلف تلك الأسماء لأفراد عائلته، وتجارب حب سابقة، وأهالي المدينة. تمكن بهذه الطريقة من أن يهون من حنينه للماضي، "شوق جارف يتبدى في رغبة حارقة للعودة إلى الوطن، مثل خنزير بري حين يصاب بطلق ناري ويركض لا يلوي على شيء في حقل لقصب السكر"(146). سرد القصة بحد ذاته كان أحد وسائل نجيب للبقاء، فقد ألقي به بعنف في خضم أشكال متعددة من العزلة. فهو معزول عن اللغة، ومعزول عن الجغرافيا، ومعزول عن الناس باستثناء أربابه. إنه معزول حتى عن الماء. ولهذا، يحول نجيب محيط عزلته الغريب وغير المألوف إلى شيء محسوس ليتمكن من أن يحافظ على آدميته وعقلانيته.
ونحن نعيش مع وصف لقلة حيلته، وعنف أربابه، وتهالك جسده، نرى فقرات متناثرة تتحدث عن لحظات قصيرة من الفرحة، مثل وقت المطر، وأمله في الهرب. وبينما يصف نجيب عالمه لنا كعالم سريالي، محجوزاً في "كوكب غريب مع الماعز والأرباب"، نرى بوضوح ملمحاً دنيوياً مملاً في طريقة احتجاز نجيب كما يصفها لنا بنيامين، فالاحتجاز هو فخ لاصطياد الوقت. إنه يلد جداول لا نهاية لها:
أعرف ما هي قائمة طعامي للأيام القادمة،
الإفطار: خبز، وماء
الغداء: خبز، وماء
مشروب المساء: حليب طازج دافئ من صدر الماعز، فقط إذا أحسست برغبة في ذلك
العشاء: خبز، وماء
وماء فاتر من خزان المياه الحديدي للشرب بين الوجبات ( عند الحاجة القصوى فقط).
أيام الماعز هي سرد لقصة العبودية الحديثة: هي سرد لقصته وجعلها مسموعة، إنها جزء من فعل التحرر لنجيب. التحرر من الانتظار، فقد كان على نجيب أن ينتظر دوماً: أن ينتظر المسؤولين ليعترفوا بوجوده، أن ينتظر اللحظة التي ينظر فيها الأرباب بعيداً حتى يتمكن من شرب الماء، وعليه أن ينتظر فرصة للهرب، وأن ينتظر في السجن حتى يسمع النداء على اسمه، ويجب أن ينتظر في الصحراء، ويجب أن ينتظر حتى يستطيع أن يسرد قصته بعد أن يخرج ناجياً من عملية الهروب. يجبر بنيامين في روايته أيام الماعز القارئ على الانصات جيداً لكل اللحظات الانسانية المرهفة، والتآزر الذي يظهر في القصص المتبادلة بين الرجال الذين يشتركون في مخاطر العمالة المحتجزة. فمن حميد، زميله في سوميسي، إلى الرجل الذي يساعد نجيب في طريقه نحو الحرية، وهو صومالي اسمه إبراهيم خادري مطلوب على ما يبدو من الحكومة لمساعدته العمال على الهرب من كفلائهم،يصف بنيامين بشكل مثير مملكة النفط من زاوية أولئك الذين قدموا من بعيد ليعملوا في مدنها وصحراواتها.
[نشر هذا المقال للمرة الأولى على "جدلية" باللغة الإنجليزية وترجمه إلى العربية علي أديب]
[غلاف النسخة الإنجليزية من الرواية]